
لو سألتكَ يا صديقي : هل يمكن لإنسانٍ أن يعود إلى الحياة بعد أن يتوفاّه ُ اللهُ سبحانه وتعالى ؟
تراهُ سؤالاً عجيبًا ! أليس كذلك ؟
كفردٍ مسلم وعلى علمٍ بدين الله وشريعة الإسلام بالطبعِ ستجيب : خالقُ الأكوانِ سبحانه وتعالى لا يُعجزهُ شيء ، فهو
قادرٌ على أن يُحي ويُميت .. حيث جعل الموت نهاية ً محتمة على الجميعِ للخروج من هذه الدنيا ، ويُعاد إحياؤهم يومَ
البعث .. فلا يمكن لإنسانٍ أو حيوانٍ في هذه الدنيا أن يعود إلى الحياة بعد الموت ! باستثناءِ بعضِ المعجزاتِ في القِدم
حيثُ جعلها الله خاصةً بأنبيائه الكرام .
إنها لبرهانٌ عظيم لنتأمل في قدرة الخالق سبحانه ، كيفَ لا ! وهو سبحانه وتعالى من أوجدنا من العدم ، كما قال في
كتابه الكريم : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُم ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } البقرة / 28
ففي الآية دليل واضح على أنّنا كنّا أمواتًا من العدم فأحيانا الله وخلقنا كما نحنُ عليهِ الان ، ثمّ يُميتنا مجددًا ليبعثنا يوم
القيامة ونسيرَ إليه فنُحاسبَ بينَ يديه ..!
ربما تعجبُ من خوضي في هذا الحديثِ برمّته ! لكن لو تمعنت معي جيّدا لأدركتَ ما أردتُ الوصولَ إليه .. ألا وهوَ أنّ
التأملَ والتفكّر في ذلك .. ربما كان سببًا من أسبابِ وجودنا في هذه الحياة ! وأنّنا وإن أدركنا نهايتنا فالموتُ كما يعني
النهاية فهوَ أيضًا لا يُعدّ نهايةً كلّ شيء !
فبالعودة للأولى " أسباب الوجود " كأوّلِ سببٍ رئيسيّ تعلّمناهُ منذُ الصغر هوَ عبادةُ الله وحده لا شريك له ، وعمارة
الأرض .. بينما لو تفكّرنا في ذلك .. لعلمنا أن الله سبحانه وتعالى غنيٌ عن كل شيء ، وأنّ عبادته هي ما يجبُ علينا
عمله شكرًا له على منحنا هذه الحياة ، وعمارة الأرض شيئا لابد منه لاستمرارية الحياة على نحوٍ طبيعي فنشعرَ بها ..
إذن لابد من وجودِ أسبابٍ أخرى : إنّ الحياةَ بحد ذاتها هبةٌ من رب العباد .. فكانت إرادته أن يغدقَ مخلوقاته بفضله ،
ويَمنُنَ عليهم بكرمه ، ويرزقهم واسع رحمته .. فجعلنا جزءًا من هذا الكون الذي هو بأكملهِ يُعد حياةً أكبر من أن
نتصورها .. بحُلوها ومرّها .. فنثنيَ عليه إن أتانا خيرًا ، ونلجأَ إليهِ متى ما اُصبنا بشر ، لذا قبول هذه الهدية يكون بإتمام
مهمتنا في الحياة ، ورفضنا الهدية يكون بإنكارها أو بالتكاسل عن أداءِ مهمتنا فيها .
وبالانتقال للأخرى " نهايتنا " .. الأشياء لا تعرفُ إلا بالتضاد ، فالرحمة لن تُعرف دون الشعور بالقسوة ، والعدل
لن يُعرف بدون الظلم ولا الشجاعة بدون الخطر .. كذلك الحياة لن تُعرفَ أو تُدركَ قيمتها دون وجود الموت ورؤيته !
فلولا وجودُ الموتِ لما بحثَ الإنسانُ عن سببٍ لاستمرار الحياة وإطالتها قدرَ ما يستطيع ، ولما تحدثتِ الأساطير بخرافاتها
عن الخلود ! حيثُ أن الخلود الأبدي للخالق تعالى وحده ، أيضًا هب لو لم يكن هناك سوى الخلود وما من موت فهل
يمكنك تصوّر رؤيتك لجد جد جد جد جدك أو جد الأجداد الأكبر ؟! مجرد التفكيرِ بذلك وإن كان يثيرُ الحماسة في نفوس
البعض سيظلّ مرعبًا بحق .. كونهُ منافٍ للطبيعي وخارج عن المألوف ، حيثُ سيسأم الجميعُ ذلك وتفقدُ الحياة معناها !
أم تُراكَ ترغب أن تعيشَ بجسدٍ ذابلٍ أنهكهُ التعبُ وتقدمُ العمر ؟! بل الموتُ أهونُ حينها ، وإن أردتَ أن تبقى مخلدًا في
ذاكرة الأقرباء والمحبين أو غيرهم فعليكَ بغرس البذور في الأرض حتى تنموَ لينتفع بها من هم بعدُك فيتذكرونكَ بها ،
وربما كانت أعمالٌ بسيطة كافيةً لتذكيرِ الآخرينَ بكَ من بعدك .
لكن أتعلم ؟ رغم إدراكنا بالموت وإيماننا به لازلنا نستطيع تجاهله أو نسيانه كي نعيشَ حياتنا جاهدين في العمل .. آملينَ
لغدٍ أفضل ، فلو كنّا نعيشُ في غمرةِ الخوف من الموت ليستحوذ على أفكارنا كهادمِ اللذات .. لما تمكنا من الاستمتاع
بالحياة أو خضنا مغامراتها أو حتى بذلنا جهدنا لنعيشَ بأفضلِ ما يمكننا ، ولما حققنا فيها شيئًا .. حيثُ التفكيرُ بذلك يعدُ
كعائقٍ عن السيرِ في مجرى الحياة بطبيعتها .. فحينها لن ترى سوى الكآبة تغطي على المرحِ بألوانه ولما سُميت هذه
حياة ! لنتيقن أنها نعمةٌ ورحمةٌ جليّة من المولى سبحانه .. أن تؤمن بالموت لا يعني أن تعدّه عائقًا وتستسلم له دون
حراك كما في القول الإسلامي المأثور " اعمل ليومك كأنك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا " .
ومن هنا أعودُ بكم لما بدأتُ به ، بحسبِ عقيدتنا كمسلمين نحنُ نعلمُ كما أنّ الموتَ لا مفرّ منه نؤمن كذلك بالبرزخ الذي
هو الحياة بعدَ الموت ولكن في نطاقٍ آخر أي ليس نطاق الحياة الدنيا ولا قوانينها ، فمن كان عملُه صالحًا كانَ قبرهُ
روضة ً له من رياضِ الجنة وبذلك يكون عمله مؤنسًا له بحياة البرزخ ، بينما من كان عمله سيئاً فيبقى عذابه في هاتهِ
الفترة مجردُ مقدمةٍ لحياته في الآخرة ، فحياتنا حتى الآن هي فرصة أمامنا للاستعداد لآخرتنا كما نعلم .
وعلى ذكر ذلك ’ حتى الان لازال يتبادرُ إلى أذهاننا بأن الموت هو مفارقة الروح الجسدِ ، وتوقفُ القلب عن النبض ،
فيبقى جثةً هامدة بلا روح .. واستثنينا موتًا من معنى آخر ، فهناك عدة مفاهيم للموت .. في حين نرى بيننا الكثير من
الموتى رغم ضحكهم وحديثهم وأكلهم ومشربهم ، رغم أنهم يسيرون بيننا .. لكنهم يظلّون موتى من الداخل !
فحينما يعتريهم الحزن ، أو يتملّكهم الإحباط من الفشل أو من أشياء أخرى فيهيمون على أنفسهم وتظلمُ الدنيا بأعينهم
ويخيّل إليهم أن أمرهم انتهى ، أو أنّه ما من أحدٍ أتعسُ منهمُ على هذه الأرض ، فلا يبالون بأنفسهم إذ يحكمون عليها
بالموت دون تردد، فتراهم يعيشون بيننا دونِ حياة ، حيثُ انتزعوا الحياة من قلوبهم .. ويبقى الموت هو أمنيتهم المتبقيّة
دون غيرها فأولئك هم موتى القلوب ..!
أبعدنا الله وإياكم عن أيّامٍ كتلك ، وجعلَ قلوبنا متعلقةً به حين تتوقفُ الحياة في أعيننا ، وأعاننا على اللجوء إليهِ
دون سواه .. و أسألُ الله لكم ولنا حسنَ الخاتمة .